جاء في كتب الصحاح أن مروان بن الحكم - الخليفة الأموي - أشكل عليه قوله تعالى: { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم } (آل عمران:188)، فقال لبوابه: اذهب إلى ابن عباس، فقل: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً، لنعذبن أجمعون! فقال ابن عباس رضي الله عنهما: وما لكم ولهذه، إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء، فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم .
هذا الخبر الثابت يدلنا على أهمية معرفة منهج السياق لفهم نصوص القرآن الكريم، فما هو هذا المنهج، وما أنواعه، وما موقف المفسرين منه، ثم أخيراً لا آخراً ما هي الثمرة المرجوة منه ؟
و(السياق) من حيث المدلول العام، يُقصد به: الإطار العام الذي تنتظم فيه عناصر النص، ووحدته اللغوية، ومقياس تتصل بوساطته الجُمل فيما بينها وتترابط، بحيث يؤدي مجموع ذلك إلى إيصال معنى معيَّن، أو فكرة محددة لقارئ النص .
وإن شئت قل: (السياق) هو الصورة الكلية التي تنتظم الصور الجزئية، ولا يفهم كل جزء إلا بحسب موقعه من الكل؛ وقد أثبت العلم أن الصورة الكلية تتكون من مجموعة كبيرة من الجزئيات المتشابهة أو المتباينة، تدخل كلها في تركيب الصورة .
ونوضح ذلك بمثال محسوس، فنقول: إن الإنسان إذا دخل مدينة ما لأول مرة لا يمكنه أن يشكل تصوراً كلياً عن تلك المدينة إلا بعد أن يكون قد تعرف على أجزاء غير قليلة منها، ووقف على أهم معالمها، وأن يكون كذلك قد خبر عادات أهلها، فعندئذ يستطيع أن يطلق حكماً أو تصوراً عن تلك المدينة، أما قبل ذلك فإنه لو فعل لكان ناطقاً بما لا يعلم .
ثم إن اعتبار (السياق) منهج عام، اعتمد عليه المفسرون في تفسيرهم لكتاب الله العزيز، ووظفوه في فهم دلالات ألفاظ القرآن الكريم، وإن لم يلتزموه دائماً. وقد تجلى اعتماد المنهج السياقي أكثر ما تجلى في تفسير القرآن بالقرآن .
ولما كانت دلالة السياق من أهم القرائن التي تدل على مراد المتكلم، وإثبات المعنى المراد دون غيره، فإن المفسرين اهتموا بمنهج السياق، واعتبروا كل قول لا يؤيده السياق لا عبرة به، ولا يعول عليه .
فأنت إذا رجعت إلى كتب التفسير، وجدت المفسرين يقولون: " وهذا أحسن وأقوى؛ لأن السياق..."، ويقولون: " ولكن السياق أدلُّ على المعنى "، ويقولون: " وتركيب السياق يأبى ذلك "، ويقولون: " فإن السياق يقتضي.."، ويقولون: " لا نأباه إذا صلح له السياق "، ويقولون: " وهو الذي يؤذن به السياق "، وأخيراً لا آخراً يقولون: " وهو بعيد عن السياق "، إلى آخر عباراتهم . ولا بأس في هذا المقام أن نسوق كلاماً للشاطبي يبين أهمية معرفة السياق، واعتماد منهج السياق لفهم مقصود الكلام عموماً، ومقصود القرآن خصوصاً، يقول الشاطبي: " المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل ... فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم والالتفات إلى أول الكلام وآخره، بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها، لا يُنظر في أولها دون آخرها، ولا في آخرها دون أولها، فإن القضية وإن اشتملت على جُمل، فبعضها متعلق بالبعض؛ لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد، فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف، فإن فرَّق النظر في أجزائه، فلا يتوصل به إلى مراده، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض "