يرمز الفرعون في مصر إلي الحاكم المستبد الذي يظل قابعا في الحكم للأبد ، ويرث بعده الحكم فرعون آخر ،ولا يتخلي عن الحكم طواعية إلا بموته أو الثورة ضده ؛ فيعتلي الحكم فرعون آخر.
وهكذا الحال ليس في مصر المحروسة وحدها،بل في كل البلاد العربية التي اعتادت علي الفرعون الحاكم أو الزعيم الملهم ،ويستلهم الحاكم فكرة الفرعون والاستبداد من الشعب ذاته الذي يصنع الفرعون..( يافرعون أيه فرعنك...فيرد الفرعون مالقيتش حد يردني ) خير تعبير عن الرضا بالأمر الواقع ، وترك قيصر يحكم طالما الأمور تسير والسفينة تبحر، ولم تعكر صفوها ريح عاتية تعصف بها. ..فما الذي يجعلنا نشغل بالنا وندخل لعبة السياسة التي لا نفهم فيها ، وتذهب بالأخضر واليابس ، وتجر علينا بحرا من المشكلات لاقبل لنا بها ،ونتعرض للاضطهاد والقمع والمطاردة من السلطة الحاكمة، فهي لعبة خاسرة تحتاج إلي من يملك مفاتيحها ، ويحسن التعامل مع كافة التيارات ، ويثبت أمام تقلبات العاصفة غير مأمونة العواقب ؛ فيركب الموجة ويواجه الفرعون وقد يقضي عليه .يأمل الشعب خيرا فيمن ساعده علي رحيل الفرعون ؛ فيتظاهر برفض السلطة ؛ ويقبل أمام إلحاح الشعب ، ويجلس مكان الفرعون وفي السنوات الأولي يأمل الشعب فيه خيرا ؛ فيعطيه صلاحيات سياسية تفوق صلاحيات فرعون موسي ذاته .
يتلاعب الحاكم بالدستور والقوانين ، ويتحول إلي فرعون أكثر ديكتاتورية واشد استبدادا عن سابقيه ، ومرة أخري لا يشغل الشعب نفسه بالسياسة ولا حصادها المر ، طالما يعيش والقافلة تسير ،ويجنبه الفرعون الحروب ويريحه من تبعات السياسة وشئون الحكم ... فلا يفرق معه فرعون أو حتي قيصر نفسه الذي لو امسك بزمام الأمور للقبه الشعب بالفرعون .
جاء طولوني وإخشيدي وفاطمي وأيوبي ومملوكي وعثماني حكموا مصر عهودا طويلة ، وكالعادة لم يشغل الشعب نفسه بشئون الحكم والسياسة ،وتحمل الظلم والاستبداد وجعل منهم فراعنة يتداولون السلطة في ظل غياب الرقابة الشعبية ورضا تام بالأمر الواقع . ثارت الإرادة الشعبية ضد الوالي التركي خورشيد باشا وأطاحت به وجاءت بمحمد علي وأسرته ،وصنعت منهم فراعنة استمروا في البلاد قرابة المائة والخمسين عاما إلي أن أزاحهم الجيش عنه.
وجد المصريون أنفسهم في الحكم بعد ثورة سنة 1952، وتوسم الساسة خيرا في ثورة يوليو التي ستجلب حكما ديمقراطيا وتداولا للسلطة بين المصريين ؛ لكن الإرادة الشعبية لم تتغير وظلت متأثرة بفكرة الفرعون الحاكم ؛ فتحول قادة الجيش إلي فراعنة سيطروا علي حكم البلاد قرابة ستين عاما منحوا فيها سلطات مطلقة ، وكبلوا الإرادة الشعبية بقوانين صارمة وأجهزة قمعية تصادر الحريات كي تضمن بقاءها .
تحررت الإرادة الشعبية من كل هذه القيود ، وتخلت عن السلبية ورفضت لأول مرة فكرة الفرعون الحاكم وثارت ضد الظلم والفساد والديكتاتورية .
يشعر الشعب لأول مرة أنه سيقرر مصيره بنفسه ..ففي سنة 1952 ملك الجيش حق تقرير مصير الشعب وأيده الشعب ، وفي عام 2011 يملك الشعب حق تقرير مصيره فيؤيده الجيش ويظل حارسا أمينا راعيا لثورته المباركة ؛ حتي يتم تسليم السلطة لحاكم يختاره الشعب بعد انتخابات حرة يقرر فيها الشعب مصيره.
كم نتمنى أن تتحرر الإرادة الشعبية هذه المرة من فكرة الفرعون الحاكم وأن تتخلي عن شعارات الزعامة والكاريزما والزعيم الملهم ،وأن تفكر بواقعية وأن يتم وضع دستور جديد للبلاد يضمن الحرية والديمقراطية والعدالة وتعلو فيه الإرادة الشعبية علي إرادة الحاكم ، وليس دستورا شكليا يصنع ديكتاتورا جديدا يتفرعن علي الشعب مرة أخري.
الخميس 09 يونيو 2011, 3:04 pm